موقع مبادرة الحزام والطريق بعيون عربية ـ
فاطمة لمحرحر:
ارتبط حكم الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، ومعه الجيل الخامس لقادة الصين الشعبية، بوضع توجه انفتاحي إرادي في علاقات الصين الدولية، وتأكيد طموح الصين لتصبح فاعلا قويا داخل حلبة العولمة.
وفي هذا الإطار، طرح الرئيس الصيني مبادرة الحزام والطريق سنة 2013، التي تمد النفوذ الصيني إلى مناطق واسعة من العالم في أوروبا وإفريقيا وآسيا، من خلال شبكة الطرق والموانئ والمطارات ومشاريع البنية التحتية، ويبدو أن هذه المبادرة سوف تحدد ملامح جديدة لتوازنات القوى في النظام الدولي، وهي مبادرة يمكن اعتبارها مشروع القرن الاقتصادي في العالم.
وهكذا، بدأت الصين تعرض حلمها الكبير على العالم، المرتبط بمشروع طريق الحرير الجديد؛ يذكر الصينيون من خلال هذا المشروع بطريق الحرير الذي كان يربط بلدهم مع أوروبا بين القرن السابع والقرن الثالث عشر في عز ازدهار الحضارة الصينية.
وتماشيا مع ذلك، تستعيد مبادرة الحزام والطريق الصينية الذكريات التاريخية لطريق الحرير، والذي كان حلقة وصل في التواصل والتجارة والتفاعل بين الحضارات. أما الصيغة المعاصرة من هذا الطريق، فالهدف منها هو تعزيز السياسات الاقتصادية والخارجية للصين، وترجع جذور هذه المبادرة إلى النجاح الاقتصادي الذي تتمتع به الصين من جراء الاعتماد على تطوير منشآت البنية التحتية.
وتسعى المبادرة إلى محاكاة الاستراتيجية الاقتصادية خارج حدود الصين، وتهدف إلى تحقيق ذلك من خلال محاولة إنشاء مسارات تجارية برية وبحرية تربط بين الصين وأوروبا عبر المرور في آسيا وإفريقيا إلى المساعدة في رفع معدلات نموها، ولا سيما في وسط وغرب الصين، وكذلك رفع معدلات النمو في البلدان الأخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن استراتيجية الحزام والطريق تنطوي على أهمية اقتصادية كبيرة بالنسبة للدول المشاركة بها، إذ إنها تعزز مكانة كل دولة من هذه الدول، كشريك تجاري للصين صاحبة الاقتصاد الأوفر حظا للنمو على مستوى العالم في الوقت الحالي، ولذلك تمثل المشاركة في المبادرة فرصة كبيرة لهذه الدول للحصول على حصة من أسواق الواردات الصينية من مدخلات الإنتاج من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المشاركة تمكن تلك الدول من الحصول على المنتجات النهائية الصينية لتلبية احتياجات أسواقها المحلية.
وتمثل المبادرة فرصة جديدة لدمج اقتصاد كل دولة مشاركة في الموجة الجديدة من العولمة، التي تلعب الصين فيها دورا محوريا، خاصة أن المشاركة في المبادرة تربط اقتصادات هذه الدول بالصين، وببعضها البعض، ما يساعد على الاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة بكل منها، ويمكنها من تبادل الخبرات وتنفيذ المشروعات والمبادرات المشتركة.
وفي هذا السياق، تخضع المتابعة التاريخية لعلاقات الصين بالمنطقة المغاربية إلى مقاربتها في التعامل مع العالم العربي من جهة، ومع القارة الإفريقية من جهة ثانية؛ وهذا شيء طبيعي ما دامت هذه المنطقة تمثل الجزء الغربي للفضاء العربي والجزء الأكبر لشمال إفريقيا.
وكما هو الحال بالنسبة إلى إفريقيا، فإن الاعتبارات السياسية هي التي تحكمت في البداية في العلاقات الصينية المغاربية، فالصين الشعبية دعمت منذ سنة 1949 بوضوح كفاح البلدان المغاربية من أجل الاستقلال، على الرغم من أنها لم تحتل موقعها الطبيعي داخل الأمم المتحدة حتى السبعينيات.
ومن منظور أخر، فإذا كانت السياسة الخارجية لدول المغرب العربي تتميز بكونها تتحرك في إطار جغرافي محدود يتمثل في علاقاتها مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، فهذا لم يعد كافيا لتحقيق المصالح الحيوية لتلك الدول، بل يتعين عليها اليوم تكييف سياساتها وسلم أولوياتها بشكل مستمر ليتوافق مع التحولات التي فرضتها المتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم، وليتماشى مع توسع جغرافية المصالح.
وإذا نظرنا إلى التحليلات والدراسات الاستراتيجية المرتبطة بالمكانة التي تحتلها المنطقة المغاربية في ساحة التنافس والصراع الجيوسياسي للقوى الدولية، يمكن للباحث الاستعانة بنماذج جديدة للعلوم الاجتماعية بهدف التفسير، كالجغرافيا الاقتصادية والجغرافيا السياسية وتحديد المواقع.
وفي هذا الإطار، يتعين النظر إلى دور المنطقة المغاربية في الفضاء العالمي، أي في الاقتصاد والدبلوماسية والتوازنات الجيوسياسية في العالم، فهي تشكل سوقا استهلاكية واعدة.
وبالنظر إلى متغيرات دراسة قوة الدول في النظام السياسي للعلاقات الدولية للقرن الحالي الذي تزداد فيه العلاقات المتبادلة، سيجري قياس قوة أي دولة بناء على ثقلها النوعي في ساحة التأثير الدولية، فقيمة الدولة الحقيقية ليس في قوتها داخل محيطها وحسب، بل أيضا في التأثير الاقتصادي والسياسي، إضافة للتأثير الدبلوماسي والثقافي.
وعند النظر إلى التحولات الجديدة في الاقتصاد السياسي الدولي، وتوزيع الموارد الجيو- اقتصادية في المناطق الجغرافية، نجد أحد المفكرين الاستراتيجيين يقول “إن القرن الواحد والعشرين مرشح لأن يكون قرنا آسيويا في بدايته، وإفريقيا في نهايته”.
ويكاد يجمع عدد كبير من الباحثين وحتى صناع القرار الصينيين، على أن الصين تملك ثقافة استراتيجية تختلف تماما عن تلك الثقافة الاستراتيجية الغربية، فهي تملك رؤية مختلفة في السياسة الخارجية على عكس ما هو رائج لدى العديد من الباحثين الغربيين، من أن السياسة الصينية لا تختلف عن غيرها من سياسات القوى الكبرى.
وفي هذا السياق، تروج الصين لمبادرة الحزام والطريق باعتبارها مشروعا يتيح القدرة على حل العديد من المشكلات التنموية ليس في الصين وحسب وإنما في جميع الدول المشاركة فيها، وتقوم المبادرة على مبادئ السلام والتعاون والانفتاح والشفافية وتمثيل الجميع، والمساواة والمنفعة المشتركة والاحترام المتبادل وتكافؤ الفرص.
وتعتبر مبادرة الحزام والطريق، إحدى الاستراتيجيات التي تعتمدها الصين في سياستها الخارجية لزيادة نفوذها على المستوى الإقليمي والدولي، فرغم أنها مبادرة اقتصادية إلا أن أبعادها السياسية والأمنية والثقافية تبرز مع التقدم في المشاريع المبرمجة وتفاعل الدول معها.
غير أن الصين لم تضع خطة شمولية معينة في مقاربتها للمنطقة المغاربية، بخاصة أن مكونات المنطقة غير متضامنة مع بعضها، وأن المنطق المغاربي غائب في تعاملها مع الغير.
وهكذا، تعاملت الصين مع كل بلد مغاربي انطلاقا من الاعتبار الاقتصادي والخصوصية الاقتصادية لكل بلد، وبالتالي ارتقى بشكل لافت مستوى معاملاتها مع أقطار المنطقة التي تمتلك موارد نفطية وغازية قابلة للتصدير، فهي تمثل بالنسبة إلى الصين مصدرا لمنتوجات الطاقة والمعادن.
وفي هذا الإطار، وجهت الصين العناية إلى البلدان المغاربية ذات الفوائض المالية لتدخل مقاولاتها في مشاريع التجهيز والطرق والموانئ والبناء، وإلى حد ما المغرب وموريتانيا، وهي تعتبر في آخر الأمر أن الأسواق المغاربية مع اختلاف إمكانياتها تعد منفذا لسلعها الصناعية.
وتماشيا مع ذلك، تمكنت الصين من كسب ثقة الدول المغاربية، بهدف تحقيق مصالحها في المنطقة، والمتمثلة في تأمين مصادر الطاقة، والتي يعتبر المغرب العربي واحدا منها، بالإضافة إلى خلق مجال نفوذ للصين كي تظهر بمظهر القوة العظمى، ولقد استطاعت الصين أن تحقق نجاحا كبيرة في هاته المنطقة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية وحتى في المجال الأمني والثقافي، فاقت بكثير النجاحات التي حققتها كل الولايات المتحدة الامريكية واليابان، وذلك راجع إلى السياسة التي اتبعتها الصين خلال المرحلة الجديدة، والتي تعتمد على مفهوم التنمية السلمية، والصعود السلمي الذي يركز على التعاون والصداقة والنفع المتبادل، وهذا ما جعلها تفوز بقبول كبير لدى الدول المغاربية.
وبالتالي، فإن الحكومة الصينية تعتبر استراتيجية الحزام والطريق قلب السياسة الخارجية الصينية، لذا فإن البعد الجيواستراتيجي لهذه الاستراتيجية يكمن بالأساس في رغبة الصين بتعزيز الثقة السياسية اقليميا مع دول الجوار الشرقي والجنوبي، فضلا عن المشاكل المتأتية من الجوار الغربي، والأهم من الناحية الجيواستراتيجية هو مسعى الصين في تغيير نمطية النظام الدولي الحالي والانتقال به من نظام تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وأخيرا، يمكن القول أن السياسة الخارجية الصينية في الدول المغاربية حققت تقدما كبيرا في العقد الأخير على المستوى الجيو-اقتصادي، والذي تمثل في جعل هذه المنطقة خزانا للمواد الأولية الضرورية للصين؛ لمواصلة بناء اقتصادها الصاعد، حيث أن بكين في طريقها إلى إضعاف الحضور الاقتصادي للقوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا، كما أنها أصبحت المنافس الأساسي للوجود الأمريكي بالمنطقة.
هذا، وتعتبر المنطقة المغاربية محورا رئيسيا في مبادرة طريق الحرير الذي سيمكن الصين من فتح خط لدعم صناعاتها من خلال الموارد والثروات الخام الأتية من دول المنطقة (ليبيا، الجزائر) بأقل تكلفة سواء من حيث نقل هذه المواد أو أسعارها؛ كما أن مبادرة طريق الحرير ستمكن الصين من زيادة وارداتها وتوسيع أسواقها في شمال إفريقيا.
وفي السياق، قامت الصين في العقد الأخير بتوطيد علاقاتها مع الدول المغاربية وقدمت الحوافز والمساعدات لتكون شريكا استراتيجيا لهذه الدول، كما أن الدول المغاربية لا تمتلك بدائل كثيرة فهي مجبرة على قبول المساعدات والمنح والترحيب بالشريك الصيني مساهمته في التنمية الاقتصادية؛ ومن المنتظر أن تغير مبادرة طريق الحرير خريطة إفريقيا، ليس فقط من ناحية خطوط التجارة وإنما أيضا من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
*باحثة في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية من المغرب
لائحة المراجع:
– فتح الله ولعلو، نحن والصين الجواب على التجاوز الثاني، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2017.
– إسلام عيادي، مبادرة الحزام والطريق الصينية: مشروع القرن الاقتصادي في العالم، اصدارات المركز الديمقراطي العربي، الطبعة الأولى، برلين، 2019.
– جين ليانجشيانج/ إن جاناردان، مبادرة الحزام والطريق: الفرص والمعوقات أمام منطقة الخليج، أكاديمية الإمارات الدبلوماسية، يونيو 2018.
– علي صالح، “مشروع الحزام والطريق: كيف تربط الصين اقتصادها بالعالم الخارجي؟”، تقرير المستقبل، مجلة اتجاهات الأحداث، العدد 26، 2018.
– توفيق عبد الصادق، ” مرتكزات السياسة الخارجية للصين في إفريقيا”، سياسات عربية، العدد 5، نوفمبر 2013.
– Thierry Pairault, Booming Sino- Maghreb economic relations : incentives for a new European partnership, HAL, Institute for Peace and Security Studies and Institute of African Studies, Ethiopia, Nov 2013
– مجموعة مؤلفين، دور الثقافة الاستراتيجية في توجيه السياسة الصينية تجاه دول المغرب العربي 2001-2017، مؤلف جماعي، الطبعة الأولى، برلين، 2018.
– باهر مردان مضخور، “استراتيجية الحزام والطريق الصينية للقرن الحادي والعشرين: بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية أنموذجا”، مجلة دراسات دولية، العدد 67، أكتوبر 2017.
– توفيق عبد الصادق، “مرتكزات السياسة الخارجية للصين في إفريقيا”، سياسات عربية، العدد 5، نوفمبر 2013.
شكرا جزيلا لك دكتورة ..